۱۳۸۹ تیر ۱۶, چهارشنبه

ذخرة العقبی و تذکرة التّقوی- المقدمة


بسم الله الرّحمن الرّحیم
المقدمة

الحمد لله الذى خلق الانسان، علمه البيان، ثم هداه بالفطرة التى فطره عليها إلى أصول الدين ومسالك الايمان، وأوضح له بالسفراء المقربين معالم الايقان وسبل الرضوان. والصلوة والسلام على نبيه المبعوث لتمهيد قواعد الاسلام وتبيين ضوابط الاحكام محمد صلى الله عليه وآله وعلى آله الهداة المهديين، وأوصيائه الكرام الطيبين، مادامت كلماتهم المكنونة لتوضيح قوانين الدين معدة، وفرائد آثارهم الباقية لتشريح حقايق الاسلام ذخيرة وعدة.
امّا بعد فيقول العبد المفتقر إلى رحمة ربه الغنى، محمّد صادق هنرور الشّجاعي الخوئي (غفر الله له و لوالدیه):
 لمّا وصل إلیّ اقتراح جماعة من طلّاب جامعة طهران و اساتذتهم علی أن أنقل محاضراتی و مذاکراتی مع طلّاب دراساتی من الحوزاء العلمیة الإسلامیة، بأجمعها إلی مدرس یُعیّن لی فی صورة قبولی إجابة مأمولهم أن القی علیهم محاضرات علیا معمّقة تحقیقیة فی الفقه علی المستوی المصطلح عندنا بدراسات الخارج، مقارناً فیها بین فقهنا و فقه المذاهب الاسلامیة الاخری اوّلاً، مقارناً بین فقهنا و نصوص نظمنا القانونی ثانیاً، مشیراً الی تطوّر کلّ بحث و تاریخه و تکوّنه ثالثاً، فتعجبت فی بدء الأمر من نفس المسؤول، و خرجت من التّعجّب الأوّلی إلی نحوه و بل اشدّ منه لما یریدوننی أن التزم به من مجموعة صعوبات یکفی کلّ واحد منها لیشقّ علی من سلّمها وفاء عهده.

ولکنّی حملت الأمر علی الخیر و الصّلاح فهیّأتُ لی بذلک فرصتان کریمتان: فرصة لقاء عدّة من الشّباب الطّالبین علی اقتفاء منهج القدماء، المعتقدین بسیرة الأسلاف الصّالحین، و فرصة ثانیة هی درس فقهنا واصولنا درساً منظّماً بحیث ترتَّب سیر البحث علی منازل الأنظار و بحیث تسکن مراحل الدراسة فی ساحة الأفکار و تطمئنّ بقرارها فی اقطار الکلام علی احسن نحو، کأنّ خریطة السّاحة لیست الّا تصویراً منها، یشاهَد فی مرآة الذّهن، و بحیث تتّضح معالم تطوّر المادة المأخوذة موضوعاً لهذه الأبحاث و ازدهار الفروع من تفریع الاصول، فی کل منزلة من منازل یقطعها الفکر و یتوقّف فیها فیُعلن ملخّصاً ما حصل علیه و اختار، و بهذا یستریح و یجدّد قواها.
و ظللنا نکاتب حتّی دعتنی الجامعة المذکورة مشکورةً، لإلقاء المحاضرات المتوافقة علیها، إلّا أنّی حفظت اختیار الباب الفقهی الّذی کنت استعد لالقاء المحاضرات فیه لنفسی.
و هذا الکتاب الذی بین یدی القاریء الکریم هو حصیلة تلک الدراسات الفقهیة الّتي مارستها خلال السّنة الدراسیة 1422-23، عالجت فیها احکام الاجتهاد و التقلید من الفقه الاسلامی، علی ضوء المنهج الذی طرحه الفقیه الکبیر العلّامة الطّباطبائی الیزدی( قدّس الله روحه) فی موسوعته الفقهیة الخالدة (العروة الوثقی).
 فالکتاب یعبر في بحوثه عن تلک الممارسة العلمية لفترة زمنية بدأت يوم الاربعاء العاشر من شهر جمادي الثانية عام ألف واربعمائة والثانی وعشرین تناولت عددا من مسائل الاجتهاد و التقلید من العروة الوثقى بالشرح والاستدلال بأساليب البحث العلمي السائد وبنفس صيغة التي تعارف عليها علماؤنا الابراء انسجاما مع الظروف التدريسية العامة. وواضح لدي - وأنا الاحظ بحوث هذا الكتاب - ان المنهج بحاجة إلى تطوير أساسي يعطي للبحث الفقهي ابعاده الكاملة، كما أن عبارة الكتاب بحكم أنها لم تعد لغرض التأليف وانما تمت صياغتها وفق متطلبات الموقف التدريسي، تتسم بقدر كبير من استهداف التوضيح والتوسع في الشرح، وبهذا فقدت جانب الاختزال والتركيز اللفظي الذي يميز الكتاب الفقهي عادة. وهذه النقاط إن كان لابد من الاعتراف بها فالمبرور لها هو ان الكتاب يمثل - كما ذكرنا - ممارسة تدريسية قد خضعت لنفس الاعراف المتبعة في مجال التدريس السائد من ناحية المنهج ولغة البحث والتوسع في الشرح والتوضيح واتجهت إلى تعميق المحتوى والمضمون كلما اتيح لها ذلك تاركة تطوير المنهج ولغة البحث إلى حين تتوفر الظروف الموضوعية التي يتطلبها ذلك، وحافظت على نفس العبارة التي استعملت خلال تلك الممارسة عن طريق تسجيلها - مع شئ من التغيير والتهذيب -. ولئن فات هذا الكتاب أن يبرز بالعبائر المضغوطة التي تستوعب المعنى بأصغر حجم لفظي ممكن، فقد استطاع أن يوفر بدلا عن ذلك درجة كافية من الوضوح لما عبر عنه من أنظار ومباني. وآخر دعوانا أن الحمد الله رب العالمين

و طبیعی أن بدأت بکتاب الاجتهاد و التقلید، و هذا اولا لتقدّم مسائلها علی غیرها منطقاً و توقّف غیرها علیها، وثانیاً لأنّها دوّنت ککتاب واحد بمعناه المصطلح الفقهی- فی اوّل محور محاضراتنا الذی هو کتاب العروة الوثقی، و لأن لها دور اصلی و مدخلیة تامّة فی کمال الاسلام بین الادیان و توضیح ذلک:
إنّ الإسلام شريعة صالحة لكلّ زمان و مكان، فهو الدين عند الله دون سواه، و هو دين البشريّة لا غير، دين متكفّل للحياة السعيدة للإنسان، فرده و مجتمعه. و إنّ للإسلام في كلّ شي‏ء نظر، و لكلّ موضوع حكم، فما من فعل أو قول يصدر من مكلّف إلا و للإسلام له حكم من الأحكام. و للإسلام أحكام إرشاديّة سمحة سهلة بل كلّ أحكامه سمحة سهلة. و أحكام الإسلام على أصناف: تكليفيّة أو وضعيّة، واقعيّة أو ظاهريّة، مولوّية أو إرشاديّة، نفسيّة أو غيريّة. و لمّا كانت أعمال الناس و أقوالهم غير محدودة، و وجوه تصرّفاتهم غير متصوّرة، بل هي متجدّدة بتجدّد الأفكار و الأزمان، مختلفة باختلاف البقاع و الأقوام، فقد يحدث موضوع لحكم في جيل جديد ما لم ير مثله في جيل بائت. و قد يخلق قوم أعمالًا لم يطّلع عليها قوم آخرون، و حينئذ تظهر صلاحيّة هذا الدين لكلّ زمان و مكان، فإنّ فقهاء المسلمين من كلّ عصر، و المفتين منهم من كلّ جيل يستقبلون كلّ حادثة تتجدّد، و كلّ قضيّة تعرض، و يستخرجون حكمها من الأدلّة في إطار الأُصول المحكمة التي هي أساس الشريعة، و يدخلون بالفقه الإسلامي كلّ مجال، يطرقون به كلّ باب، و يحملون عليه الأُمّة الإسلاميّة حملًا، لا بالقوّة و لا بالثورة، بل بالجهاد و الإرشاد، و بالإقناع و التوجيه، و بإبراز محاسنه للفرد و المجتمع، و بالتخلّص من الجمود و التعصّب. و لعلّ ذلك هو المقصود من دعوى صلاحيّة هذا الدين القويم الصراط المستقيم لجميع الأعوام و الأقوام، و يتجلّى للناس فضل الفقه الإسلامي، و سعة أُفقه، و مدى طواعيّته، و حسن تقبّله لكلّ ما يفيد المجتمع الإنساني مدى الدهور و الأحقاب ذلك قيمة الاجتهاد، و هذا قيمة المجتهد، و ما أغلى هذا الثمن فهو المنفّذ لما يضمن سعادة الإنسان و كرامته، فلا ثمن أغلى منه و إن غلا.
إنّ الاجتهاد أهمّ موضوع حي له صلة وثيقة بالفقه الإسلامي؛ لأنّ عليه يترتّب أهمّ وصف يوصف به فقه الإسلام من حيث صلاحيّته لكفالة الحياة السعيدة لجميع أولاد آدم في كلّ عصر و زمان (سیدنا الفذّ المجاهد السّیّد رضا الصدر، ص: 26).

و تحوّلت مسائل الاجتهاد و التقليد علی ایدی الباحثین من الفقهاء المسلمين إلی أن أصبحت موضوعاً فقهياً واسعاً فی ایّامنا، و ما هذا الّا لما وجدوا فیها من خطر و اهمّیة، فخصّصوا لها فصلاً أو باباً مستقلا ضمن دراساتهم الاستدلالية و رسائلهم الإفتائية، و بذلوا فیه جهودهم حتی کثر أن نری فی مؤلّفاتهم كتاباً مستقلّاً یتناول الاجتهاد و التقلید بالبحث.
فأنتظمت في هذا الباب- أو هذا الكتاب- موضوعات اتسمت بأهميتها، لإتصالها بأكثر المسائل ابتلاءً و أثراً في حياة المؤمنین بأسرهم.
و من أبرز هذه الموضوعات التي انتظمها عندهم ذلك الباب:
فی أنّ كلّ مكلّف يجب أن يكون مجتهداً أو مقلِّداً أو محتاطاً. و ما یدل علیه و أنّ هذا الوجوب هل هو عقلي أو شرعي؟
مباحث الاجتهاد، و منها:
مبادئ الاجتهاد
التجزِّي في الاجتهاد
التخطئة والتصويب
مباحث الإجزاء
مباحث الاحتياط
مباحث التقليد
اشتراط الحياة في المرجع
العدول من مجتهد إلى آخر
العدالة
فتوى من لا أهليّة له للفتوى
غير أنه بالرغم من أهمية المصادر الفقهیة و الآثار العملية البالغة،  ظل مسائل الإجتهاد و التّقلید- فيما يبدو لنا- دون المستوي الذي تستأهله من الدراسة و التحقيق، و أظن أن هذا کلّه یرجع إلی تأخّرتکوّن اکثر مسائلها و تدوّن عمدة ابحاثها عن کثیر من الابواب الفقهیة،
و طبیعی أن لا یظهر فی أثناء تکوّن موضوعٍ و تطوّره الأوّلی بحث منظّم عنه، لأنّ النّظر التّام النّافذ لا یمکن الّا عند شیء من التّثبّت و التّوقّف فی المسائل، کما نری فی مثل ابواب الصلاة و الطهارة و نحوهما من الابواب ذات التقدم الزمانی، فقد أشبعت بحثاً و تحقیقاً من قبل فقهائنا العظام (قدس الله اسرارهم)، حتی نجلس فی دراسة تلک الابواب من تراثنا الفقهی علی موائدهم الزاخرة بالعلم و النور، و نسئلهم من معطیات مدرستهم و أنظارهم، الّتی لا یمکن الاستغناء عنها وعن فهم عمقها فی أیّة دراسة فقهیة استنباطیة، فلله درّهم و شکّر الله سعیهم و وفّقنا للاهتداء و الإقتداء بهم.
فیکون تنقیح مسائلها وتنیسق مباحثها فی غایة الضّرورة، و لذلك وجدت من المفيد أن أتوفر على دراسة هذه الموضوعات، من أجل إبراز خصائصها و أثرها فی حیاة المسلمین، و مدى ما أعطاه الإسلام لها من أهمية في تشريعاته و لاعالج احکامها و انقّح فروعها الّتی تبرز أهمّیة دراستها، إذا ما علمنا بأن مختلف أوجه النشاط الإسلامی و جمیع شئون الحياة من العبادیة الفردیة إلی العملية العامة منها. تستمد فی معظم طاقاتها و قدراتها، من وضوح الأحکام المبحوثة عنها فی تلک المصادر، المفتی بها فی الرسائل العملیة توفر تلك المصادر، و استثمارها على الوجه الأكمل.
و أخذ المدرسون و المصنفون من فقهائنا و سائر الباحثین فی تراثنا الفقهی الغنی في الأعوام الأخیرة یُعنَون عنایةً واسعة بدراسة کتاب الإجتهاد و التّقلید، فقلّما یمضی عام دون أن تُنشَر فیه أبحاث جدیدة، أو تلقی محاضرات مفصّلة قد یتجاوز عن عام دراسی واحد، تتناول مسائل الإجتهاد و التّقلید بالبحث و تعالج أحکامها، أو تُطبع مقالات في شتّی فروعها، أو تُدافع عن اطروحات تحاول أن تجیء بمواضع متفاوتة و تطرح أنظاراً مبتکرة.

و بفضل هذه الأبحاث الّتی تتکاثر یوماً بعد یوم، و ما تُلتَقی من أضواء علی فقهنا السّدید، أصبح من الممکن أن یُکتَب دراسته کتابةً تستوعب أطرافه و تُحصیء مختلف مباحثه و تحکی فی کل واحد منها عن الأقوال المختلفة و تلخّص تطوّره و سیره و تُظهر آثاره و تدرس فروعه، و نحو هذا التّنقیح و التّنسیق ممّا ینبغی أن یقام به و بل لابدّ منه فی
نهایة الامر. و هذه الابحاث الجدیدة هی أکبر ما یُسهّل لنا القیام بدراسة الاجتهاد علی النّحو المذکور.

و کان تعرّفی علی کثرة ما يترتب على هذه المسائل و نحوها من أهمية و أثر في جمیع شئون الحیاة و كثير من موضوعات الفقه، أکبر باعث لی علی النّهوض بهذه الدّراسة،  سواء ما حاضرت منها علی جمع من الطّلاب و الفضلاء و ما ألّفت کتقریر لها، و علی أیّ حال لم أولّف کتابی هذا لیُثبت لی شیء من العلم و الفقه، و لم اقصد به إلی تهجین تراثنا و ما ترک لنا اسلافنا و لا إلی تحسین ما أضفت إلیه أو نقّحت منه أو وضّحت... لا، بل إنّما قصدت إلی بحث طوائف من مسائل فقهنا ذات الإصالة و الأهمّیة و ممّا تعمّ به البلوی، و وزنها من حیث التّنسیق و التّبویب بمعاییر سهلة هی معاییر النّقد المنصف الّذی لا یمیل مع الهوی. و إنّما ألّفت الکتاب بحثاً منظّماً فی الإجتهاد و التّقلید علی قدر وسعی و بضاعتی المزجاة، فأنا معترف أنّی لم ادّخر وسعاً فی أن أحقّ الحقّ حین یجب إحقاقه و إذاعته.

و بهذا کلّه یولد مع محاضراتی فی الاجتهاد و التقلید بحوزة طهران العلمیة الاسلامیة هذا الکتاب و أخذا ینمیان و یبلغان رشدهما معاً و إن قد سبق المکتوب ما حوضر و قد سبق المحاضرة تقریرها الکتبی. و أعترف أنّنی تجشّمتُ کثیراً من العناء فی تألیفه وترتیب مقدّماته و جمع الأسباب الّتی تعین علی صحّة نتائجه، و أننی بذلت جهداً شاقّاً فی دراسة ما قدّمت من تأریخ کلّ مسألة و تطوّرها، سواء فی دراسة نشوء المسألة نفسها و التّعرّف علی کیفیة تکوّن البحث عنها حتّی تتّضح ظروفها الدّینیة و الثّقافیة و الإجتماعیة و السّیاسیة، أو فی تحلیل الآثار المتکفّلة فی اجزائها أو اجمعها للمسألة و ما تعرّضت له من سیر المسألة نفسها و تطوّر الأبحاث المتعرّضة لها فی أطرافها و ما اضبطته من مراحل تفرّع فروعها حتّی تَنجلی خصائصها و موقعیّتها فی فقهنا، و حتّی یأخذ کلّ واحد من المسائل و الأحکام فی مکانه الدّقیق من رسائلنا العملیة و جوامعنا الإفتائیة، و حتّی یستقرّ کلّ بحث  من الأبحاث الإستدلالیة فی موضعه الخاص المناسب له فی موسوعاتنا الفقهیة و بل لا یبعد أن تلقی بهذه اضواءً علی ادلّة المسائل و مدارکها ایضاً و یُعان علی وضعها فی مواضعها الصّالحة لها من جوامعنا الرّوائیة.

و قد عکفت علی هذا الدّرس، اقرأ و استوعب حتی استقام لی ما ابتغیت بقدر وسعی و جهدی. و لم اکد ابدأ بتصفّح المصادر لأستعدّ للدرس، حتّی رأیت الا أنّ كل واحد من الأبحاث الرئیسیة التي جاءت في کتاب الإجتهاد و التّقلید، فهو عنوان متميز بذاته، و يمكن أن يشكل لوحدة كتابا أو رسالة مستقلة. فرأيت أن أخص محاضراتی تلک في جملة منها، و هی ما تعرّض لها فی العروة الوثقی، على أن أتوفر- بعونه تعالى- في فرصة مواتية أخرى على دراسة بقية هذه الموضوعات. فاخترت کتاب الاجتهاد و التقلید من العروة الوثقی متناً و حاضرت طلّاب دراساتي فی مسائل الکتاب علی محوریتها، حتی صارت المحاضرات شرحاً للعروة الوثقی. فإن کان فیما طرحناه من البحوث شیء من التوضیح و التنقیح فهو من وحی أفکارالاسلاف، و عمق أنظارهم و مقاصدهم (رضوان الله علیهم). و إن کان فیه نقص أو زلل فذلک من قصوري و نقصانی، الّذی أسأل الله سبحانه و تعالی أن یعصمنی منه، و أن یمنّ علیّ بحسن القبول، فهو حسبی، انّه نعم النّصیر.
و لیُعلَم أنّ المسائل الّتی یُعرف عند اهل الفقه بعد جمعها و تدوینها فی العصور الأخیرة، بکتاب الإجتهاد و التّقلید، اخذت منذ عصر صاحب العروة الوثقی- آیة الله العظمی الامام السید محمد کاظم الطباطبائی الیزدی (قدس الله نفسه الزکیة)- تشغل حیّزاً واسعاً جدّاً فی دائرة الأبحاث الفقهیة، و أظنّ العلّة الأقوی و الباعث الأصلی علی هذا الأمر، إستقلال کتاب الإجتهاد و التّقلید فی العروة، خلافاً للشرائع و غیرها من الامّهات السّابقة علیها،  فإنه لایخفی علی أحدنا شدّة اهتمام الفقهاء بالعروة الوثقی منذ ظهور هذه الموسوعة المبارکة إلی یومنا هذا، و لم یسبقها و بل لم یبلغ مبلغها من المقبولیة و المحبوبیة کتاب آخر مما تقدم علیها و ما تأخر منها، فمقبولیتها الواسعة عند اعلام المصنّفین و المدرّسین و بل عند عموم المشتغلین بفقه آل محمد (علیهم السّلام) لا یزال تتزاید یوماً بعد یوم.
نعم، إن یُلاحظ ما قد بلغت هذه الموسوعة الراقیة من الإستیعاب و الاشتمال للعناوین الجدیرة بالتّعرّض لها، و ینظر إلی کثرة الفروع المتعرضة لها فیها، و إن یُتأمّل فی روعة اسلوبها و کیفیة تبویبها و إن یدرک و یفهم منهجیّة جمعها و تدوینها، فلیس رتبتها عند اهلها بعجیب، بل یبدو الامر واضحاً، کما یُری فی ضوء هذه الملاحظات بغایة الوضوح الأوصاف المنتهیة إلی صیرورة هذا الکتاب الشریف محوراً لاکثر الأبحاث، و لا یغرب بعد هذا وجدانها المتن الّذی توجّه الیه الباحثون جیلة بعد جیلة، فکثر و لایزال یتکاثر الشّروح له و التّعالیق علیه، و عُدّ و یُعدّ معیاراً لکلّ عرض و طرح، میزاناً لکلّ بحث و دراسة، منهجاً لکلّ توضیح و تفصیل. ولنرجع الی خصائص العروة فی اوائل المحاضرات.
نطاق البحث:
هذا و بعد أن انتهينا هناك، إلى أن بحثنا في هذه المحاضرات، سيقتصر على دراسة جملة من مسائل الاجتهاد و التقلید و هی ما وردت فی متن العروة الوثقی، فإن مهمتنا مع هذا، و بالرغم مما أخذناه على أنفسنا من التركيز و ضغط مسائل الكتاب- لا بد أنها ستتسع لبحث بعض ما يتعلق بالتّکلیف نفسه و ما یتعلّق بطوائف المکلّفین من التعريف بمصطلحات هذه الإضافات و استجلاء خصائصها. ثم عرض و جهات النظر المختلفة للفقهاء المحدثين و المفکرین المعاصرین و نحوهم ممّن ذهب بولایة الفقیه الجامع لعدّة من الشّرائط علی جمیع نفوس المسلمين و فی جمیع شئونهم و مطلقاً، فيما يتعلق بأصل هذا المدّعی و أثر ذلك في مسائل الإجتهاد و التّقلید و فروعها المختلفة المبحوثة عنها فی الکتاب، دون أن نتعرّض لشیء من فقه الدّولة الإسلامیة علی القول بولایة الفقیه. و بدا لی بعد القائی هذه المحاضرات، أن اتوسّع فیها توسّعاً یدرس هذه المباحث، فكل ما یتعلق بمسائل التکلیف و شروطه و احکامه و طوائف المکلفین و نحوها، جعلته مما سنعرض له علی سبیل الاستطراد في (باب تمهيدي) للرسالة ، ما هو في الواقع إلا من أجل توفير العناء فيما يثأر بعدئذ من مسائل متعددة حول الموضوع الجامع أو الموضوع الاصلی و الأوّلی لمسائل الإجتهاد و التقلید، الّتی ما هی الّا قضایا مشتّة تحتوی علی أحکام تُحمل علی ذلک الموضوع الاصلی و هو المکلّف، و من أجل توضيح المعالم أمام الموضوعات الرئيسة التالية التي وضعناها في (أبواب أربعة):
حيث تكلمنا في (الباب الأول) منها عن التکلیف من حيث تعريفه و طبيعته و حقیقته.
و تناولنا في (الباب الثاني) منها الحديث عن شروط التّکلیف، حيث قسمناها بعد استقراء الفتاوى و النصوص، إلى شروط توجّهه، و أخرى لتنجّزه لا بد من توافرها لصحّة اطلاق عنوان المکلّف علی الإنسان و صدقه
و عقدنا (الباب الثالث) في البحث عن أحكام البلوغ خاصّةً، و حاولنا في هذا المجال التركيز على بعض موضوعاته المهمة، و بشكل يختلف عن المنهج التقليدي الذي سلكه بعض الفقهاء، و قد أسهبنا بصورة خاصة في موضوع علامات البلوغ سوی السّن، و ذلك في كل ما يختص بها طبیعیة و فقهیة، و ما يتعلق بالوعاء الذي تتناوله هذه العلامات، مع مقارنتها بالسّنّ الخاص التي تلابسها من بعض الجهات، كما عرضنا في فصل خاص من هذا الباب لأحكام بعض أنواع البلوغات المقدمة و المتاخرة عن متعارفها التي تتميز ببعض الصفات.
و خصصنا (الباب الرابع) و الأخير للحديث عن بلوغ النّساء خاصة، لاتصاله الوثيق بحیاتنا و عموم البلوی به و معرکات مرجعها افتاءات بعض من لا اهلیة له للفتوی من معاصرینا، فعالجنا في الفصل الأول منه بلوغ الانثی طبیعیة و طبیة و علمیة بالطريقة التي عالجنا بها أحكام العلامات في الباب السابق، و قارنا بينها و بین ما ورد فی النّصوص و قد لاحظنا فی هذه المباحث ایضاً کلمات القوم و اقوالهم.
كما قمنا في الفصل الثاني من هذا الباب باستعراض مفهوم البلوغ في النظم و الأفكار المستحدثة، و حدّثنا عن بلوغ المرأة و رشدها و جنسیتها و حرّیتها و شئونها بمفهومها الحديث و آثارها السيئة، و بیّنّا أن ذلك کلّه إثر ظهور قوانين الإصلاح في عديد من الدول المعاصرة بما فیها ایران. و أثبتنا أنّ التشریع في الإسلام- على العكس منه في هذه النظم- هو حركة إصلاحية هادفة، ترمى إلى استصلاح المجنمع و استکمال الفرد معاً علی اقرب اصول الی طبیعة الانسان و علی مبان اکثر ملاءمة لذهنیتة.
و أنهينا بعدئذ البحث (بخاتمة) عن افضلیة ما أتی به الاسلام و ربطنا کل ما بینا قبل الخاتمة بدعوتنا إلى الأخذ بوجهة النظر الإسلامية في الحیاة الفردیة و الجمعیة و فی جمیع نشاطاتنا.

منهج استدلالى مقارن:
و منهجنا في هذه الرسالة بعد ذلك منهج (استدلالى) قائم على النظر و البحث و التحليل، و (مقارن) قائم على استقراء أشهر المدارس الفقهية، و هي حسب أسبقية ظهورها: «الإمامية، الزيدية، الأحناف، المالكية، الشافعية، الحنابلة، و الظاهرية» مضافا إلى مقارنتها ببعض القوانين الوضعية الحديثة حينما يقتضينا البحث إلى ذلك.
و قد أفادتنا هذه الموازنة الرحبة في التوصل إلى بعض الآراء و الأفكار الواعية في الإسلام، و الخاصة بموضوع الققه الولائي و ما يتصل بها من اصول نحو ما نجد في فقهنا الإستنباطي.

صعوبات:
غير أننا واجهنا كثيرا من الصعوبات في هذا المسلك القائم على الاستدلال و الموازنة، نظرا لإهمال كثير من المدارس الفقهية المذكورة للتعرض لبعض المسائل الواردة في هذا البحث، الأمر الذي أوجب إهمال ذكر بعض هذه المدارس في قسم من مسائل هذا الكتاب.
كذلك واجهنا مثل هذه الصعوبات من جزاء حاجتنا إلى التوسع بالبحث في بعض المسائل كمسألة تعارض ما افتی به المقلّد و ما حکم به الحاکم علی ثبوت ولایة الفقیه، و مسألة أن ولایة الفقیه علی ایّ حال من الامور التقلیدیة، فلا یجوز لغیر المجتهد ان یختار فیها رأیا و مذهباً لنفسه بغیر علم، مستنداً بمسموعاته و مقروءاته. و كذلك موضوع الالتزام القلبي بهذه الولایة لفقیه کامر یتوقف علیه شئونه و نشاطاته، و مسألة هل یمکن ان نقول بجواز التقیّة لمن لا یوجد له کثیر من الطرق لمعیشته و محنته،  و نحوها من الموضوعات غير المبلورة التي تتطلب جهدا و تتبعا في غير باب‏ من أبواب الفقه و الحديث. مضافا إلى لزوم تتبعها في بعض المصادر القانونیة و الموسوعات الحدیثة و نحوها، و ذلك من أجل الوقوف على بعض الوقائع و الإجراءات التي نحن بحاجة إلى تثبيتها و إدراجها في كثير من هذه المسائل الناشئة من ولایة الفقیه علی المذهب الحکومي.

شكر و تقدير:
و لا يفوتنا في ختام هذه التوطئة أن نقدم بالغ شكرنا و تقديرنا لسیدنا سماحة الاستاذ آیة الله العظمی السّیّد محمّدصادق الحسینی الرّوحانی (ادام الله ایّام افاضاته) الذي وسع من وقته و جهده في الإشراف على هذه (الرسالة)، و کنت اختلف إلیه و استفیض من علمه و استفید من حکمته و درایته حتّی فی أیّام کان سماحته محبوساً فی بیته، و أظنّ أنّ أوّل لقاء بیننا فقد وقع فی یوم من أیّام شهر رمضان المبارک، قبل فرجه و حرّیته بما یقرب من سنتین أو ثلاثة سنین، و لتلک المقدّرات و الموانع و المخاطر المحتملة لمن یتردّد عنده، کنت واحد من کلّ اصحابه الّذین ما اظنّ عددهم بلغ العشرة فی هذه السّنین، و کان لی نعمة عظمی أنّ البیئات المذکورة أسمحت لی أن استفید منه، کلّ الإستفادة علی قدر وسعی و بحسب فهمی و طاقتی العلمیة، و ألّفت علی آثاره (دام ظلّه) تعلیقات و شروح، بین ما یکون اکثر مناسبة بأن یُدعی حواش، کحواشی المحقّقین و المصحّحین، فتراها هنا و ذاک، ولکنّه لا إتصال بین کل واحدة منها، حتّی یُحکم بوحدة عنوانیة لمجموعها، و ما یتولّد منها کتاباً ضخماً مستقلّاً، و ما بینهما، فمن الحواشی المشتّتة ما سجّلت فی هوامش نسختی الشّخصیّة من موسوعة فقه الصادق، و من الکتب القریبة الإستقلال، فأشهرها هو کتابی المسمّی بنخبة الاصول فی ثمانیة اجزاء ضخمة، شرحاً لزبدة الاصول من تصانیفه (مدّ ظلّه)، و کلّها عرضتها علیه، فتفضّل بإصلاحات أو أظهر لی بکلّ سماحة و کرامة، ایرادات و نواقص کنت علی غفلة منها، و قد شوّقنی و أیّدنی و فرّحنی بإجازة أو کرّمنی بتقریظ علی أوراقی،... . و إنّما حدّثت بهذه النّعمات المتوالیة المتزایدة، لیُعلم الصّلات و العلائق بیننا و لا یظهر امراً غریباً، إن أمرنی سماحته فی الخریف التّالی أن افعل کلّ ما أری لازماً حتّی اشرع من بدو السّنة الدّراسیة الجدیدة بإلقاء محاضرات استدلالیّة علیا فی الفقه و الاصول وأن اقوم بدراسات تحقیقیّة فیهما، أی ما اشتهر بدرس الخارج عندنا و بل فی کلّ المجتمع فیما نعلم.

و كذلك لأستاذنا المحقق آیة الله العظمی الشیخ محمد فاضل اللنکرانی لما أبداه من ملاحظات و توجيهات قيمة في هذا السبيل.
كما لا بد لي أخيرا أن أتقدم بالشكر و العرفان لسيدنا المحقق سماحة آیة الله العظمی السید محمد الموسوی المشتهر بمفتي الشیعة الذي أفادنا واسعا في ملاحظاته. سائلا اللّه العلى القدير أن يسلك بنا جميعا سواء السبيل إلى ما فيه خدمة الفكر و العقيدة؟






ذخرة العقبی و تذکرة التّقوی- المقدمة


 

هیچ نظری موجود نیست:

ارسال یک نظر